يتفوق التلاميذ اليابانيون فى مادتى الرياضيات والعلوم على أقرانهم فى العديد من دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
ولا يعد هذا التفوق المستمر شيئاً جديداً، حيث بدا هذا التفوق واضحاً جلياً فى الدراسات التربوية المقارنة التى أجريت فى أعوام 2000، و 2003، و 2006، و 2009.
وقد لاحظ فريق من الخبراء الدوليون أن مستوى التلاميذ اليابانيين المتخرجين من المرحلة الثانوية فى مادتي الرياضيات والعلوم يماثل مستوى الطلاب الأمريكيين المتخرجين من الجامعة،
ينهى 95% من طلاب المرحلة الثانوية دراستهم بنجاح، ونتيجة لذلك المستوى التعليمى الرفيع يستطيع خريجو التعليم الثانوى اليابانى قراءة الجداول الإحصائية المعقدة المنشورة فى الصحف،
وفهم معادلات التفاضل والتكامل المذكورة فى الأدلة الإرشادية الخاصة بالمصانع الكبرى.
ويعد هذا التفوق الدراسي أمراً جديراً بالدراسة، وخاصة فى دولة تمثل الجبال غالبية مساحتها،
وتعتبر نسبة الأرض الصالحة للزراعة فيها هى الأقل بين جميع الدول الصناعية، ولهذا يتكدس السكان فى مساحة ضئيلة من الأودية والسهول الساحلية،
وتمثل العواصف المطيرة والزلازل المتكررة عوامل سلبية يمكن أن تؤثر على الاقتصاد والنظام التعليمي الياباني،
كما تعانى اليابان من ندرة الموارد الخام، وعلى الرغم من كل هذه العوامل فقد نجح النظام التعليمي الياباني نجاحاً هائلاً،
وقد تأثرت الثقافة اليابانية بهذه العوامل الجغرافية والمناخية والجيولوجية، حيث ازدهر العمل التعاوني كأداة للحفاظ على حياة الأفراد، كما أدرك المجتمع أن أفضل السبل للنجاح
- فى ظل ندرة الثروات الطبيعية – هو تنمية رأس المال البشري.
ومن ثم، تمحورت الثقافة اليابانية حول تنمية المعارف والمهارات وعلى تعزيز قوة العلاقات الاجتماعية,
ويسود الشعب الياباني اعتقاد شائع مفاده أن انهماك الفرد فى العمل لصالح الجماعة سوف يعود بالنفع على كليهما؛ حيث تقدر الجماعة التضحيات الفردية كما تعاقب على الأنانية وحب الذات،
وبالتالى فقد سادت القيم التى تعلي مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد، والتى تؤكد على أهمية التناغم فى المجتمع، وفى ظل تضحية الفرد لصالح الجماعة، تسبغ الجماعة حبها ورعايتها
على الفرد، ولهذا يعيش الفرد الياباني دائماً كجزء فاعل فى جماعة أكبر سواء داخل الأسرة أو المدرسة أو الجامعة أو العمل.
وتعتمد سمعة المدرسة اليابانية على نتائج التحصيل الدراسي وعلى سلوك تلاميذها.
ويعتبر المجتمع المدرسة مسؤولة عن كلا الجانبين معاً.
ويتضح ذلك عند مخالفة أى تلميذ للقانون خارج المدرسة؛ حيث تستدعي الشرطة معلم الفصل، وجميع معلمي الصف الدراسي، وأم التلميذ ليعتذروا جميعاً سوياً عما بدر من التلميذ من سلوك.
ولهذا تنمو لدى التلاميذ اليابانيين رابطة وجدانية شديدة القوة نحو معلميهم تدفعهم لبذل قصارى جهدهم فى التفوق الدراسي واحترام القانون داخل وخارج المدرسة.
ويشعر التلاميذ بنفس الالتزام نحو أقرانهم، ويعتقدون أن فشل الفرد هو بمثابة خذلان للجماعة. ولهذا يسعى الأفراد دائماً إلى تحقيق أهداف أعلى من قدراتهم،
ويؤمنون أن النجاح واحترام القانون والتضحية فى سبيل الجماعة هى السبيل الوحيد لاكتساب احترام الجماعة. وتسود نفس القيم داخل الشركات والمصانع اليابانية؛
حيث يسعى العمال إلى كسب احترام وإعجاب زملائهم من خلال العمل الدؤوب الجاد. ولا يجتهد العمال اليابانيون سعياً وراء المجد الشخصي، بل سعياً وراء مصلحة الجماعة.
ولا يتقاعس العمال اليابانيون عن أداء عملهم، نظراً لأن المدير يلاحظهم، ولكن لأن أقرانهم وزملاءهم الأقل رتبة يلاحظونهم أيضاً. ويعتقد العمال أن الشركة هى بمثابة الأم الحنون لهم،
وأن أي تضحية نحوها سوف يتم تقديرها وردها.
ونظراً لأن الشركة تمثل تعتبر بمثابة الأم بالنسبة للعمال، فإنها تقدم للعمال بصورة دائمة السكن المناسب والرحلات الترفيهية والبرامج التعليمية بل ونفقات الجنازة بالإضافة إلى رواتبهم.
وفى حين يعتمد الترقى فى كثير من البلدان على العلاقات الشخصية والعائلية، إلا أنه يعتمد فى اليابان على الجهد والكفاءة.
وفى حين يلتحق أبناء الأسر الثرية فى بلدان العالم بوظائف أكثر دخلاً نظراً لعلاقات والديهم، يلتحق الأبناء اليابانيون بوظائف تدر دخلاً أعلى نظراً لاستثمار الأسرة مبالغ مالية أكثر فى تعليم أبنائها.
وتعتبر المدرسة الثانوية أو الجامعة هى المسئولة أخلاقياً عن ضمان حصول طلابها على الوظائف. وهذا أمر غير موجود فى الدول الأخرى.
وبالتالي، فإن التحاق التلميذ بالمدرسة الثانوية أو بالجامعة يعتمد كلية على نتائج التلميذ فى امتحانات القبول.
ويحكم المجتمع على درجة نجاح الأم فى أداء رسالتها من خلال نجاحها فى إلحاق أبنائها بالمدارس الثانوية الراقية ثم بالجامعات ذات السمعة الأكاديمية المرموقة.
ونظراً لتركيز المرأة اليابانية على دورها كأم ومربية، فإن أعداد الأمهات اليابانيات الناجحات غير العاملات يفوق بمراحل مثيلاتهن فى الدول الغربية.
ويفسر علماء الاجتماع علاقة الأمهات اليابانيات بالأبناء باعتبارها علاقة تضحية من قبل الأمهات لصالح الأبناء، مقابل أن يرد الأبناء الجميل بالتفوق الدراسي.
ومن ثم، فإن التقدم الاقتصادي والتفوق التعليمي هو بمثابة محصلة للكفاءة والإصرار، وأن الحكم على ذلك يكون من خلال امتحانات قبول شديدة الموضوعية.
وعلى الرغم من عدم قياس امتحانات القبول اليابانية للتفكير التحليلى أو للإبداع أو للقدرة على الابتكار، وتأكيدها على حفظ الحقائق واستظهار المعلومات وإتقان خطوات حل الأسئلة،
الا أنها قد نجحت فى تطوير المجتمع وتقدم الصناعة. ويرجع هذا النجاح فى التنمية الاقتصادية والتفوق التكنولوجي للشركات اليابانية إلى تركيزها على ثلاثة عوامل رئيسية هى:
الذكاء التطبيقي، والقدرة على التعلم، والقدرة على العمل الجاد والإصرار على مجابهة الصعاب والتفوق عليها. ونظراً لأن الشركات اليابانية تميل إلى توظيف عمالها لفترات زمنية طويلة،
فإنها تستثمر مبالغ مالية كبيرة فى برامج التعليم المستمر والتنمية المهنية لهؤلاء العمال.
وفى ظل هذه الفلسفة ترسل الشركات اليابانية موظفيها الجدد إلى الخارج للحصول على درجة الماجستير من الجامعات الأجنبية المرموقة، أو للتدريب فى مصانع الشركات العالمية الكبرى.
وتؤكد بحوث علم الإدارة أن الشركات اليابانية لا تقدر فقط العمال فائقى الذكاء، بل تقدر أيضاً العمال المستعدين لتعلم كل ما تفرض الظروف تعلمه.
ولا تهتم الشركات اليابانية بتحديد مقدار ذكاء الفرد فقط، بل بقدرته على توظيف ذكائه. ولهذا تركز امتحانات القبول فى الشركات اليابانية على مقدار الذكاء التطبيقي الذى يمكن للفرد إظهاره،
وعلى مقدار توظيفه لهذا الذكاء فى صناعة شيء مفيد. ومن المستحيل اجتياز امتحانات القبول اليابانية بدون بذل الجهد الدؤوب لفترات زمنية طويلة استعداداً لهذه الاختبارات.
وإذا كانت العديد من الدول تتحدث عن أهمية تعلم كيفية التعلم، فإن اليابان قد نجحت فى بناء نظام تعليمي يطبق هذه التوصية.
وباختصار فإن هناك ثلاثة عوامل رئيسة وقفت وراء هذا النجاح الساحق للنظام التعليمي الياباني :
النظر إلى اجتياز امتحانات القبول بالمدارس الثانوية وبالجامعات على أنه هو البوابة الوحيدة للحصول على مكانة مرموقة في مجتمع يعتمد فقط على الكفاءة الأكاديمية،
والاعتقاد السائد بأن النجاح فى هذه الاختبارات يعتمد على مقدار الجهد الدؤوب والمستمر المبذول فى الاستذكار أكثر من اعتماده على مقدار الذكاء الفطري للتلميذ، والاعتقاد بأن النجاح
أو الفشل فى اجتياز امتحانات القبول يعود إلى الجهود المشتركة من قبل التلميذ وأمه وأسرته ومعلميه. وبعد أن حللنا الأسس الثقافية والقيمية التى تقف وراء تفوق النظام التعليمي الياباني ، هل من معتبر ؟
مصدر المقال : almesryoon